أنا إن شاء الله ناوي أكتب حاجة مفصلة عن تركيا
وبفضل الله فعلا كتبت بحث عن العدالة والتنمية والدروس المستفادة من تجربة النجاح
ولكني استعجلت شوية على التدوينة دي لأني وجدت رأي العام من قيادات الإخوان اللي بيكتبوا عن الموضوع
بيهاجمو ا
حزب العدالة والتنمية، للأسف من دون دراسة علمية لما يقوم به، وبتقييم مضطرب يغلب عليه الطابع العاطفي والتعميمي والصوت العالي على المناقشة الموضوعية
وأنا هنا لا أعمم، فخلال تواجدي في مصر وزيارتي للمعتقلين في المزرعة سمعت منهم كلاما طيبا عن التجربة التركية
وهم يشيدون بها، ويعتبرون التعلم منها واجبا وهناك من أساتذتي في الإخوان من أعجبني تقييمهم، وهناك من اختلفت معه ولكني احترمت مناقشته بشكل علمي وهناك مقالات لا أملك إلا الاختلاف معها، كتلك المقالة التي نشرها الأستاذ الفاضل علي عبد الفتاح في موقع إخوان أون لاين، واخترت أن أعلق منها على بعض المقولات والعبارات، على أمل أن أنشر فيما بعد تحليلي الكامل لما قام به الحزب
يقول الأستاذ علي في مقاله
في الإسلام إذا اختلف العقل السليم مع النص الصريح قُدِّم النص الصريح على العقل، وفي العلمانية العقل مُقدَّم على النقل الصحيح.
وأنا لا يمكنني بحال أن أقبل هذه المقولة، ولا يصح قبولها، ذلك أن وقوع الخلاف بين العقل السليم والنص الصريح مستحيل من الأصل، وإذا حدث فهو إما خطأ في العقل، فلا يكون بذلك عقلا سليما، وإما خطأ في فهم النص فلا يكون بذلك صريحا
ويقول الأستاذ علي كذلك
فمن الممكن أن تتغير قيم الشرف فنجد مثلاً كاتبةً لا تعتبر العذرية علامة الشرف
وأنا أرى ذلك كلاما عجيبا به خلط بين الدين ولثقافة، فمن ناحية كما تعلمنا في الحديث فإن (شرف المؤمن قيام الليل)، ومن ناحية أخرى فحصر الشرف في قضية جنسية كارثة كبرى، ومعيار ما أنزل الله به من سلطان، ومن ناحية ثالثة فليست كل العذارى شريفات وبالتالي وحتى من داخل ذات الإطار التحليلي يبقى اعتبار العذرية وحدها كمعيار للشرف أزمة في المقال،
يقول الأستاذ علي في مقاله
في الإسلام إذا اختلف العقل السليم مع النص الصريح قُدِّم النص الصريح على العقل، وفي العلمانية العقل مُقدَّم على النقل الصحيح.
وأنا لا يمكنني بحال أن أقبل هذه المقولة، ولا يصح قبولها، ذلك أن وقوع الخلاف بين العقل السليم والنص الصريح مستحيل من الأصل، وإذا حدث فهو إما خطأ في العقل، فلا يكون بذلك عقلا سليما، وإما خطأ في فهم النص فلا يكون بذلك صريحا
ويقول الأستاذ علي كذلك
فمن الممكن أن تتغير قيم الشرف فنجد مثلاً كاتبةً لا تعتبر العذرية علامة الشرف
وأنا أرى ذلك كلاما عجيبا به خلط بين الدين ولثقافة، فمن ناحية كما تعلمنا في الحديث فإن (شرف المؤمن قيام الليل)، ومن ناحية أخرى فحصر الشرف في قضية جنسية كارثة كبرى، ومعيار ما أنزل الله به من سلطان، ومن ناحية ثالثة فليست كل العذارى شريفات وبالتالي وحتى من داخل ذات الإطار التحليلي يبقى اعتبار العذرية وحدها كمعيار للشرف أزمة في المقال،
وعلى كل فنقد هذا المفهوم لا يجعل المرء علمانيا، خاصة إذا كان النقد في إطار الدفاع عن المسلمات الشرعية التي ترفض الزنا، وتعاقب على المجاهرة به عقوبة مغلظة، ولكن على كل ففقد العذرية لا يمكن أن نفترض أن طريقه الوحيد هو الزنا، ثم أننا لا يمكن أن نحرم إنسانا بشكل أبدي من القول بأنه شريف لذنب أذنبه ولو كان كبيرا، وإلا فهل يستطيع أحد أن يقول أن المرأة المخزومية ليست شريفة، وهي التي زنت ولكنها تابت توبة لو وزعت على سبعين رجلا من أهل المدينة لوسعتهم
وعلى كل حال فليست تلك إحدى ساحات المواجهة بين الإسلاميين والعلمانيين، خاصة على الساحة السياسية، ولا يمكن أبدا عاتبارها كذلك
كل ما سبق من الكلام كان بعيدا عن تركيا وتجربتها، ثم قال الأستاذ مقولة افتتح بها الحديث عن تركيا، أثارت قلقي في الحقيقة:
وأقول إذا وصل أي فصيلٍ إسلامي بطرقٍ علمانية وأعلن احترامه للعلمانية ومبادئها، وأنها تُشكِّل المرجع له فيصبح غير إسلامي، فليس المهم الوصول إلى السلطة إنما المهم كيف وصلت؟ وما الوسيلة؟ فلا بد أن تكون الوسيلة شريفة والغاية شريفة.
وأعود فأقول: أولا لا توجد وسيلة في الوصول للحكم أشرف من تلك التي وصل بها أردوجان للسلطة قبل سنوات وبقي بها في السلطة في الانتخابات الأخيرة، تلك هى الديمقراطية الحقيقية المعبرة عن إرادة الجماهير بمنأى عن مراكز الاستبداد والطغيان كالجيش في تركيا، تلك الديمقراطية التي أدرك أردوجان أن معركته ومعركة الإسلام الحقيقة هي تحقيقها، لا مواجهتها، وأدرك أن هدفه الأساسي يجب أن يكون توسيع قاعدة ومساحة الحريات لما في ذلك من تحقيق لمقاصد الشريعة
ثانيا: من فقه الواقع أن يبدأ الإنسان بما هو موجود فعلا ويسعى لتغييره لا أن ينطلق من مثالية ليست موجودة إلا في خياله، وقد رأينا ذلك في السيرة، وفي سير الصحابة والتابعين، وفي سيرة أبطال هذه الأمة على مر العصور، ولذلك كان طبيعيا أن ينطلق أردوجان من النظام العلماني، وهو عندما تحدث عن رؤيته لمفهوم العلمانية لم يكن هناك فارقا بين ما قاله هو وما نقوله نحن في مصر عن مدنية الدولة، وهو بذلك وجه ضربات شديدة لنموذج العلمانية اللائكية الأتاتوركية الموجودة أصلا
ثالثا: أرى أنه من الخطأ أن نبدأ بتقييم أناس قبل قهم واقعهم، وللأسف فكل من تحدثوا وهاجموا العدالة والتنمية بهذه الحدة لم يعوا أهدافه وما يقوم به، وهو ما سيرد لاحقا، وإنما أردت أن أقول إن الأستاذ على وغيره من الأساتذة الأجلاء لم يعطوا أنفسهم الوقت الكافي في دراسة الحالة التركية، والبيئة السياسية والاجتماعية، والتطورات التاريخية، وطبيعة الحياة السياسية، وتأثير الأبعاد الإقليمية والدولية، وأهم الأزمات الداخلية، ومناطق الحساسيات السياسية والعوامل المرجحة عند التعامل مع كل منها، وغير ذلك، وبالتالي كان طبيعيا أن يروا أن العدالة والتنمية قد صارت له مرجعية علمانية، وأنه فقد إسلاميته، في حين أنني أراه أكثر إسلامية من جل الحركات الإسلامية الموجودة على الساحة، لأنه كان أكثر إدراكا لوافعه، وبالتالي أكثر قدرة على تحريكه ودفعه في اتجاه مقاصد الشريعة
ثم يقول الأستاذ بعذ ذلك كلاما قاسيا يجرح فيه في العدالة والتنمية بشكل شديد القسوة يقول فيه
ولماذا وصلت؟ وما هو الهدف؟ هل لتعميق منظومة القيم والأخلاق والمبادئ الإسلامية؟ هل لتطبيق شرع الله ومنهج الإسلام أم لتطبيق منهج علماني- غربي؟ ما الموقف من قضايا المسلمين خاصةً فلسطين والقدس والأقصى؟ما الموقف من اليهود الذين يحتلون أرض المسلمين ومقدساتهم ويقتلون أطفالهم ويسجنون رجالهم؟ ومَن هم أولى بالتقارب الغرب أم العرب؟ في تركيا أعلن حزب العدالة والتنمية عن احترام العلمانية واعتبارها مرجعية للحكم، وأن التقارب مع الغرب أولى من التقارب مع العرب، واحترام المعاهدات والاتفاقيات مع الكيان الصهيوني وأنه ليس عدوًا، واحترام المصالح الأمريكية. وأكد عبر (عبد الله جول) أن الإسلامَ لا يُشكِّل لنا مرجعية؛ لأن الإسلامَ لا يقبل الخطأ والسياسة تقبل الخطأ والصواب، وأنه لا سياسةَ في الدين ولا دينَ في السياسة. ورشَّح الحزب 150 علمانيًّا على قوائمه في الانتخابات الأخيرة استجلابًا للأصوات بهدف الوصول فأصبح الوصول إلى السلطة غاية- لا وسيلة، فالوصول للسلطة بأي ثمنٍ بتغيير التوجهات والمبادئ.
وأقول في ذلك إن الهدف من سعي العدالة والتنمية للحكم هو فتح المجال أمام الحريات المدنية التي بها يتحقق المناخ السليم لبناء مجتمع أخلاقي إسلامي بعيدا ن الضغط العلماني، والهدف كذلك هو القضاء على الفساد، وهو هدف هام جدا إسلاميا، وبدونه لا تتحقق نهضة ولا يستقيم حال، وهي لا تطبق منهج علماني غربي، وإن كانت لا تواجه الغرب بالسلاح، فهي قد اتجهت شرقا بذكاء شديد فلم ترتكب أخطاء أربكان بالصدام مع العالم بمحاولة بناء تحالف اقتصادي إسلامي، وإنما سعت لإصلاح ما هو قائم بالفعل من خلال ترشيح أكمل الدين إحسان أوغلو للأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وهي المنظمة التي يرى فيها الكثير من المثقفين الإسلاميين منهم الدكتور محمد عمارة نموذجا لوحدة المسلمين بديلا عن النسق التاريخي لهذه الوحدة
والموقف من القضية الفلسطينية هو أحسن ما يمكن أن تقوم به في الوقت الحالي بعد أن حولت العلاقة مع إسرائيل من علاقة حليفين إلى علاقة تنافسية على النفوذ في المنطقة، وربطت تطوير العلاقات بحقوق الشعب الفلسطيني، ويجب هنا ملاحظة أمرين، أولهما أن الأمور لا تتغير بين ليلة وضحاها، ولا أظن إن وصول الإخوان للحكم في مصر مثلا سيعني إلغاء اتفاقية كامب ديفيد في اليوم التالي، فالتدرج من سنن الكون، ومن فرائض فقه الواقع، النقطة الثانية هي أنه توجد هناك بعض الملفات التي يسيطر عليها الجيش العلماني، وموازين القوى في تركيا تقول إن مواجهة الجيش تعني القضاء على التجربة، ولذلك فإن أردوجان لا يتناول هذه الملفات، وإنما يسير من طرق أخرى لتقويص سلطة الجيش، مثل السعي لتوسيع قاعدة الحريات المدنية، وذلك عن طريق الدفع واتجاه الانضمام للاتحاد الأوروبي، وهو السبيل الوحيد لتقليص سلطة الجيش، وفتح بعض الحريات المدنية مثل ارتداء الحجاب في الجامعات مثلا، وغيرها من الحريات والحقوق الإسلامية التي يسير أردوجان وحزبه صوبها من دون تصادمات قد تقضي على التجربة، وتلك هي قمة الذكاء السياسي، والأخلاقية السياسية في آن واحد، وأتمنى أن نقرأ كتاب السياسة الشرعية للقرضاوي، والكتاب الرائع الفلسفة السياسية في الإسلام، لأحمد داوود أوغلو منظر حزب العدالة والتنمية
ولعل هذا يجيب على سعي تركيا باتجاه الغرب، وإن كانت تسعى باتجاه العرب، فأول ما فعله أردوجان بعد وصوله للحكم في المرة السابقة هو الاجتماع مع كل السفراء العرب والمسلمين في تركيا، وقدم ذلك على اجتماع سعى له السفير الإسرائيلي، وهي خطوة غير تصادمية ولكنها معبرة، وكون العرب لم يتفاعلوا مع سعيه إليها فذلك ليس خطؤه، ولا يمكن لومه عليه
والموقف من أمريكا واضح، فهو يعاملها كدولة عظمى لا يمكن تجاهلها، ويجب مراعاة تجنب الصدام معها ما استطاع لذلك سبيلا، ولكنه مع ذلك لا يفرط بسبب هذه العلاقة في ثوابته وقضاياه، ولعل موقفه من استخدام أراضيه في غزو العراق يدلل بوضوح على استطاعته تحقيق مقاصده من دون صدام
وعن إسلامية الحزب فللأسف فإن الأستاذ على لم يأخذ إلا نصف كلام جل وترك نصفه، فقد قال جل فيما قاله إن الحزب إسلامي بمعنى أنه يسعى لتحقيق المقاصد السياسية للشريعة الإسلامية، وقال أردوجان إن الحزب يريد إن يقدم نموذجا إسلاميا يكون تجربة نجاح يستفيد منها الاخرون، كل هذا في تركيا العلمانية، التي حكم على أردوجان فيها بالسجن لأنه ألقى قصيدة شعر إسلامية في مظاهرة عامة، وبالتالي فليس من الطبيعي أن يخرج أحدهم يقول إن الحزب إسلامي
ويبقى السؤال: هل العبرة بالأسماء أم بالمسميات؟
هل الأهم أن أقول أنني إسلامي؟ أم أن الأهم هو أن أقدم برنامجا يتماشى مع الشريعة ويحقق النجاحات؟
أظن أنه يكفي أردوجان فخرا أن يستطيع حزبه ببرنامجه المميز (الذي هو مستمد من الشريعة) أن يجذب إليه أنصارا من العلمانيين، الذين يختلفون مع الإسلام أيديولوجيا، ولكنهم رأوا الخير في البرنامج الذي طرحه العدالة والتنمية
وأظن أن ترشيح العلمانيين على قوائم الحزب هو تجسيد لهذا النجاح، وكلنا يعرف أن ذلك ليس خطئا ولا عيبا، بل هو دليل على الانفتاح السياسي، وفي مصر حاول الإخوان ترشيح عدد من الأقباط على قوائمهم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وكانت الأمور تسير بهذا الاتجاه لولا تدخل الأمن الذي يريد أن يبقي بعض المسافة بين الطرفين بطريقة فرق تسد، فهل لو كان الإخوان فعلوا ذلك لكانوا علمانيين؟ أو لكانوا فرطوا في ثوابتهم؟ على العكس، أرى أن الحرص على مثل هذا الأمر هو اٌرب لتحقيق مقصد إسلامي هام وهو مقصد العدل، إذ يجب أن يكون البرلمان ممثلا لأكبر عدد ممكن من القطاعات الشعبية المختلفة، والفصيل الكبير دوما يجب أن يتحمل مسؤوليته في أن يساهم في تحقيق ذلك
إن مقاصد الشريعة الإسلامية تتخطى ما هو ديني، وما هو ديني في أغلب الأحوال ليس دور الدولة تطبيقه، ويقتصر دورها على توفير المناخ المناسب لذلك، ولذلك فحزب العدالة والتنمية يعمل على ذلك
ومن مقاصد الشريعة- كما يقول القرضاوي- تقرير كرامة الإنسان وحقوقه وخصوصا الضعفاء، والحزب يسير هي هذا الاتجاه
ومن مقاصد الشريغة- أيضا كما يعرفها القرضاوي- بناء الأسرة المسلمة وإنصاف المرأة، الشق المتعلق بإنصاف المرأة يعمل عليه الحزب،ومن ذلك سعيه لتوسيع الحريات بما يسمح للمرأة المسلمة بأن ترتدي حجابها في المؤسسات التعليمية الحكومية، وهي الممنوعة الان من أن تصبح طالبة أو نائبة محجبة بحكم القانون الدستور، والشق الاخر دروه فيه توفير المناخ الصحي، وهو يقوم بذلك، وإصلاح التعليم بما يتناسب مع ذلك/ وهو يقوم بذلك أيضا
ومن المقاصد أيضا، الدعوة إلى عالم إنساني متعاون، وهو ما يقوم به الحزب من خلال انفتاحه على العالم، ومشاركته في إصلاح المفاهيم الخاطئة لدى الغرب عن الإسلام، ومن خلال دوره الفاعل في قضايا حوار الحضارات
ومن مقاصد الشريعة التي يتحدث عنها القرضاوي أيضا بناء الأمة الشهيدة على البشرية، وللحزب دور وإن كان صغيرا في ذلك، وهو المشاركة في إصلاح المؤسسة التي تحفظ هذه الوحدة، منظمة المؤتمر الإسلامي
والحزب متهم في تركيا بأنه يدعم مراكز تحفيظ القران، ويسمح بالعديد من الفعاليات الإسلامية، وهو لم ينفي عن نفسه هذا الأمر، أي أنه يشارك بشكل غير مباشر في تحقيق مقصد آخر، وهو الدعوة إلى حسن عبادة الله وتقواه، والدعوة إلى تزكية النفس البشرية
ولم تبق من بين مقاصد الشريعة التي تحدث عنها القرضاوي في كتابي (كيف نتعامل مع القران العظيم) و(مقاصد الشريعة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية) إلا مقصد إصلاح العقائد والتصورات، ولا أظن ذلك من دور الأنظمة ورجال السياسة، وإنما هو من أدوار الدعاو، وكما يقول المستشار البشري، فإن شمولية الإسلام لا تعني غياب التخصص، وكما يقول ابن عطاء الله، فإن (إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من شهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية)
والحزب ببرنامجه الاقتصادي الناجح حقق قوة لبلده هي شرط آخر من شروط الشهادة التي تقتضيها الاية الكريمة (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)، وشروط الشهادة -كما ينبه العبقري مالك بن نبي- يقسمها الفقهاء لشروط عقلية وأخرى أخلاقية، وأظن أن أغلب ما قام به أردوجان يدفع ببلده في أحد هذين الاتجاهين
ولذلك وجدت نفسي عاجزا عن قبول الكلمة التي ختم بها الأستاذ علي مقاله حين قال
تجربة العدالة هي تجربة إنسانية تتمتع بقدرٍ من الشفافية والنزاهة حسَّنت من الأحوال الاقتصادية للمواطن التركي عبر اقتصادٍ هشٍّ قائمٍ على السياحة ولها نفس مبادئ الأحزاب العلمانية. يعني حزب علماني نظيف شوية وبس.
والحقيقة غير ذلك، فلا الاقتصاد التركي هش (ويسأل في ذلك رجال الأعمال ممن لهم صلة بالأتراك، وخبراء الاقتصاد، وكلهم يشيرون إلى قوة وتماسك وتوازن الاقتصاد التركي)، ولا الحزب علماني، ويكفي ما يبق للتدليل على ذلك
ولا يعني هذا أنني أرى العدالة التنمية بلا أخطاء، ولكن محاولة سحق إسلامية التجربة تسحق الأمل في الأمة، فلا نتعلم من الدروس، ونبقى على حالنا لا نتقدم
أنا واثق من أن صدر الأستاذ على سيتسع لما قلته في هذا المقال، وهو في كل حال أستاذ من أساتذتي، وأتمنى أن نناقش ما قلته بهدوء عسى أن نستفيد جميعا بهذه المناقشة، وبهذه التجربة
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
والحمد لله رب العالمين
وعلى كل حال فليست تلك إحدى ساحات المواجهة بين الإسلاميين والعلمانيين، خاصة على الساحة السياسية، ولا يمكن أبدا عاتبارها كذلك
كل ما سبق من الكلام كان بعيدا عن تركيا وتجربتها، ثم قال الأستاذ مقولة افتتح بها الحديث عن تركيا، أثارت قلقي في الحقيقة:
وأقول إذا وصل أي فصيلٍ إسلامي بطرقٍ علمانية وأعلن احترامه للعلمانية ومبادئها، وأنها تُشكِّل المرجع له فيصبح غير إسلامي، فليس المهم الوصول إلى السلطة إنما المهم كيف وصلت؟ وما الوسيلة؟ فلا بد أن تكون الوسيلة شريفة والغاية شريفة.
وأعود فأقول: أولا لا توجد وسيلة في الوصول للحكم أشرف من تلك التي وصل بها أردوجان للسلطة قبل سنوات وبقي بها في السلطة في الانتخابات الأخيرة، تلك هى الديمقراطية الحقيقية المعبرة عن إرادة الجماهير بمنأى عن مراكز الاستبداد والطغيان كالجيش في تركيا، تلك الديمقراطية التي أدرك أردوجان أن معركته ومعركة الإسلام الحقيقة هي تحقيقها، لا مواجهتها، وأدرك أن هدفه الأساسي يجب أن يكون توسيع قاعدة ومساحة الحريات لما في ذلك من تحقيق لمقاصد الشريعة
ثانيا: من فقه الواقع أن يبدأ الإنسان بما هو موجود فعلا ويسعى لتغييره لا أن ينطلق من مثالية ليست موجودة إلا في خياله، وقد رأينا ذلك في السيرة، وفي سير الصحابة والتابعين، وفي سيرة أبطال هذه الأمة على مر العصور، ولذلك كان طبيعيا أن ينطلق أردوجان من النظام العلماني، وهو عندما تحدث عن رؤيته لمفهوم العلمانية لم يكن هناك فارقا بين ما قاله هو وما نقوله نحن في مصر عن مدنية الدولة، وهو بذلك وجه ضربات شديدة لنموذج العلمانية اللائكية الأتاتوركية الموجودة أصلا
ثالثا: أرى أنه من الخطأ أن نبدأ بتقييم أناس قبل قهم واقعهم، وللأسف فكل من تحدثوا وهاجموا العدالة والتنمية بهذه الحدة لم يعوا أهدافه وما يقوم به، وهو ما سيرد لاحقا، وإنما أردت أن أقول إن الأستاذ على وغيره من الأساتذة الأجلاء لم يعطوا أنفسهم الوقت الكافي في دراسة الحالة التركية، والبيئة السياسية والاجتماعية، والتطورات التاريخية، وطبيعة الحياة السياسية، وتأثير الأبعاد الإقليمية والدولية، وأهم الأزمات الداخلية، ومناطق الحساسيات السياسية والعوامل المرجحة عند التعامل مع كل منها، وغير ذلك، وبالتالي كان طبيعيا أن يروا أن العدالة والتنمية قد صارت له مرجعية علمانية، وأنه فقد إسلاميته، في حين أنني أراه أكثر إسلامية من جل الحركات الإسلامية الموجودة على الساحة، لأنه كان أكثر إدراكا لوافعه، وبالتالي أكثر قدرة على تحريكه ودفعه في اتجاه مقاصد الشريعة
ثم يقول الأستاذ بعذ ذلك كلاما قاسيا يجرح فيه في العدالة والتنمية بشكل شديد القسوة يقول فيه
ولماذا وصلت؟ وما هو الهدف؟ هل لتعميق منظومة القيم والأخلاق والمبادئ الإسلامية؟ هل لتطبيق شرع الله ومنهج الإسلام أم لتطبيق منهج علماني- غربي؟ ما الموقف من قضايا المسلمين خاصةً فلسطين والقدس والأقصى؟ما الموقف من اليهود الذين يحتلون أرض المسلمين ومقدساتهم ويقتلون أطفالهم ويسجنون رجالهم؟ ومَن هم أولى بالتقارب الغرب أم العرب؟ في تركيا أعلن حزب العدالة والتنمية عن احترام العلمانية واعتبارها مرجعية للحكم، وأن التقارب مع الغرب أولى من التقارب مع العرب، واحترام المعاهدات والاتفاقيات مع الكيان الصهيوني وأنه ليس عدوًا، واحترام المصالح الأمريكية. وأكد عبر (عبد الله جول) أن الإسلامَ لا يُشكِّل لنا مرجعية؛ لأن الإسلامَ لا يقبل الخطأ والسياسة تقبل الخطأ والصواب، وأنه لا سياسةَ في الدين ولا دينَ في السياسة. ورشَّح الحزب 150 علمانيًّا على قوائمه في الانتخابات الأخيرة استجلابًا للأصوات بهدف الوصول فأصبح الوصول إلى السلطة غاية- لا وسيلة، فالوصول للسلطة بأي ثمنٍ بتغيير التوجهات والمبادئ.
وأقول في ذلك إن الهدف من سعي العدالة والتنمية للحكم هو فتح المجال أمام الحريات المدنية التي بها يتحقق المناخ السليم لبناء مجتمع أخلاقي إسلامي بعيدا ن الضغط العلماني، والهدف كذلك هو القضاء على الفساد، وهو هدف هام جدا إسلاميا، وبدونه لا تتحقق نهضة ولا يستقيم حال، وهي لا تطبق منهج علماني غربي، وإن كانت لا تواجه الغرب بالسلاح، فهي قد اتجهت شرقا بذكاء شديد فلم ترتكب أخطاء أربكان بالصدام مع العالم بمحاولة بناء تحالف اقتصادي إسلامي، وإنما سعت لإصلاح ما هو قائم بالفعل من خلال ترشيح أكمل الدين إحسان أوغلو للأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وهي المنظمة التي يرى فيها الكثير من المثقفين الإسلاميين منهم الدكتور محمد عمارة نموذجا لوحدة المسلمين بديلا عن النسق التاريخي لهذه الوحدة
والموقف من القضية الفلسطينية هو أحسن ما يمكن أن تقوم به في الوقت الحالي بعد أن حولت العلاقة مع إسرائيل من علاقة حليفين إلى علاقة تنافسية على النفوذ في المنطقة، وربطت تطوير العلاقات بحقوق الشعب الفلسطيني، ويجب هنا ملاحظة أمرين، أولهما أن الأمور لا تتغير بين ليلة وضحاها، ولا أظن إن وصول الإخوان للحكم في مصر مثلا سيعني إلغاء اتفاقية كامب ديفيد في اليوم التالي، فالتدرج من سنن الكون، ومن فرائض فقه الواقع، النقطة الثانية هي أنه توجد هناك بعض الملفات التي يسيطر عليها الجيش العلماني، وموازين القوى في تركيا تقول إن مواجهة الجيش تعني القضاء على التجربة، ولذلك فإن أردوجان لا يتناول هذه الملفات، وإنما يسير من طرق أخرى لتقويص سلطة الجيش، مثل السعي لتوسيع قاعدة الحريات المدنية، وذلك عن طريق الدفع واتجاه الانضمام للاتحاد الأوروبي، وهو السبيل الوحيد لتقليص سلطة الجيش، وفتح بعض الحريات المدنية مثل ارتداء الحجاب في الجامعات مثلا، وغيرها من الحريات والحقوق الإسلامية التي يسير أردوجان وحزبه صوبها من دون تصادمات قد تقضي على التجربة، وتلك هي قمة الذكاء السياسي، والأخلاقية السياسية في آن واحد، وأتمنى أن نقرأ كتاب السياسة الشرعية للقرضاوي، والكتاب الرائع الفلسفة السياسية في الإسلام، لأحمد داوود أوغلو منظر حزب العدالة والتنمية
ولعل هذا يجيب على سعي تركيا باتجاه الغرب، وإن كانت تسعى باتجاه العرب، فأول ما فعله أردوجان بعد وصوله للحكم في المرة السابقة هو الاجتماع مع كل السفراء العرب والمسلمين في تركيا، وقدم ذلك على اجتماع سعى له السفير الإسرائيلي، وهي خطوة غير تصادمية ولكنها معبرة، وكون العرب لم يتفاعلوا مع سعيه إليها فذلك ليس خطؤه، ولا يمكن لومه عليه
والموقف من أمريكا واضح، فهو يعاملها كدولة عظمى لا يمكن تجاهلها، ويجب مراعاة تجنب الصدام معها ما استطاع لذلك سبيلا، ولكنه مع ذلك لا يفرط بسبب هذه العلاقة في ثوابته وقضاياه، ولعل موقفه من استخدام أراضيه في غزو العراق يدلل بوضوح على استطاعته تحقيق مقاصده من دون صدام
وعن إسلامية الحزب فللأسف فإن الأستاذ على لم يأخذ إلا نصف كلام جل وترك نصفه، فقد قال جل فيما قاله إن الحزب إسلامي بمعنى أنه يسعى لتحقيق المقاصد السياسية للشريعة الإسلامية، وقال أردوجان إن الحزب يريد إن يقدم نموذجا إسلاميا يكون تجربة نجاح يستفيد منها الاخرون، كل هذا في تركيا العلمانية، التي حكم على أردوجان فيها بالسجن لأنه ألقى قصيدة شعر إسلامية في مظاهرة عامة، وبالتالي فليس من الطبيعي أن يخرج أحدهم يقول إن الحزب إسلامي
ويبقى السؤال: هل العبرة بالأسماء أم بالمسميات؟
هل الأهم أن أقول أنني إسلامي؟ أم أن الأهم هو أن أقدم برنامجا يتماشى مع الشريعة ويحقق النجاحات؟
أظن أنه يكفي أردوجان فخرا أن يستطيع حزبه ببرنامجه المميز (الذي هو مستمد من الشريعة) أن يجذب إليه أنصارا من العلمانيين، الذين يختلفون مع الإسلام أيديولوجيا، ولكنهم رأوا الخير في البرنامج الذي طرحه العدالة والتنمية
وأظن أن ترشيح العلمانيين على قوائم الحزب هو تجسيد لهذا النجاح، وكلنا يعرف أن ذلك ليس خطئا ولا عيبا، بل هو دليل على الانفتاح السياسي، وفي مصر حاول الإخوان ترشيح عدد من الأقباط على قوائمهم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وكانت الأمور تسير بهذا الاتجاه لولا تدخل الأمن الذي يريد أن يبقي بعض المسافة بين الطرفين بطريقة فرق تسد، فهل لو كان الإخوان فعلوا ذلك لكانوا علمانيين؟ أو لكانوا فرطوا في ثوابتهم؟ على العكس، أرى أن الحرص على مثل هذا الأمر هو اٌرب لتحقيق مقصد إسلامي هام وهو مقصد العدل، إذ يجب أن يكون البرلمان ممثلا لأكبر عدد ممكن من القطاعات الشعبية المختلفة، والفصيل الكبير دوما يجب أن يتحمل مسؤوليته في أن يساهم في تحقيق ذلك
إن مقاصد الشريعة الإسلامية تتخطى ما هو ديني، وما هو ديني في أغلب الأحوال ليس دور الدولة تطبيقه، ويقتصر دورها على توفير المناخ المناسب لذلك، ولذلك فحزب العدالة والتنمية يعمل على ذلك
ومن مقاصد الشريعة- كما يقول القرضاوي- تقرير كرامة الإنسان وحقوقه وخصوصا الضعفاء، والحزب يسير هي هذا الاتجاه
ومن مقاصد الشريغة- أيضا كما يعرفها القرضاوي- بناء الأسرة المسلمة وإنصاف المرأة، الشق المتعلق بإنصاف المرأة يعمل عليه الحزب،ومن ذلك سعيه لتوسيع الحريات بما يسمح للمرأة المسلمة بأن ترتدي حجابها في المؤسسات التعليمية الحكومية، وهي الممنوعة الان من أن تصبح طالبة أو نائبة محجبة بحكم القانون الدستور، والشق الاخر دروه فيه توفير المناخ الصحي، وهو يقوم بذلك، وإصلاح التعليم بما يتناسب مع ذلك/ وهو يقوم بذلك أيضا
ومن المقاصد أيضا، الدعوة إلى عالم إنساني متعاون، وهو ما يقوم به الحزب من خلال انفتاحه على العالم، ومشاركته في إصلاح المفاهيم الخاطئة لدى الغرب عن الإسلام، ومن خلال دوره الفاعل في قضايا حوار الحضارات
ومن مقاصد الشريعة التي يتحدث عنها القرضاوي أيضا بناء الأمة الشهيدة على البشرية، وللحزب دور وإن كان صغيرا في ذلك، وهو المشاركة في إصلاح المؤسسة التي تحفظ هذه الوحدة، منظمة المؤتمر الإسلامي
والحزب متهم في تركيا بأنه يدعم مراكز تحفيظ القران، ويسمح بالعديد من الفعاليات الإسلامية، وهو لم ينفي عن نفسه هذا الأمر، أي أنه يشارك بشكل غير مباشر في تحقيق مقصد آخر، وهو الدعوة إلى حسن عبادة الله وتقواه، والدعوة إلى تزكية النفس البشرية
ولم تبق من بين مقاصد الشريعة التي تحدث عنها القرضاوي في كتابي (كيف نتعامل مع القران العظيم) و(مقاصد الشريعة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية) إلا مقصد إصلاح العقائد والتصورات، ولا أظن ذلك من دور الأنظمة ورجال السياسة، وإنما هو من أدوار الدعاو، وكما يقول المستشار البشري، فإن شمولية الإسلام لا تعني غياب التخصص، وكما يقول ابن عطاء الله، فإن (إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من شهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية)
والحزب ببرنامجه الاقتصادي الناجح حقق قوة لبلده هي شرط آخر من شروط الشهادة التي تقتضيها الاية الكريمة (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)، وشروط الشهادة -كما ينبه العبقري مالك بن نبي- يقسمها الفقهاء لشروط عقلية وأخرى أخلاقية، وأظن أن أغلب ما قام به أردوجان يدفع ببلده في أحد هذين الاتجاهين
ولذلك وجدت نفسي عاجزا عن قبول الكلمة التي ختم بها الأستاذ علي مقاله حين قال
تجربة العدالة هي تجربة إنسانية تتمتع بقدرٍ من الشفافية والنزاهة حسَّنت من الأحوال الاقتصادية للمواطن التركي عبر اقتصادٍ هشٍّ قائمٍ على السياحة ولها نفس مبادئ الأحزاب العلمانية. يعني حزب علماني نظيف شوية وبس.
والحقيقة غير ذلك، فلا الاقتصاد التركي هش (ويسأل في ذلك رجال الأعمال ممن لهم صلة بالأتراك، وخبراء الاقتصاد، وكلهم يشيرون إلى قوة وتماسك وتوازن الاقتصاد التركي)، ولا الحزب علماني، ويكفي ما يبق للتدليل على ذلك
ولا يعني هذا أنني أرى العدالة التنمية بلا أخطاء، ولكن محاولة سحق إسلامية التجربة تسحق الأمل في الأمة، فلا نتعلم من الدروس، ونبقى على حالنا لا نتقدم
أنا واثق من أن صدر الأستاذ على سيتسع لما قلته في هذا المقال، وهو في كل حال أستاذ من أساتذتي، وأتمنى أن نناقش ما قلته بهدوء عسى أن نستفيد جميعا بهذه المناقشة، وبهذه التجربة
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
والحمد لله رب العالمين
ابراهيم الهضيبي
مدونة مش هنبطل